أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله جل وعلا، فمن اتقاه وقاه، وأسعده وأرضاه.
أيها المسلمون، ما أسرعَ ما تنقضي الليالي والأيام، وما أعجلَ ما تنصرم الشهور والأعوام، وهذه سُنّة الله في الحياة، أيّام تمرّ وأعوام تكرّ، {كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ ٱلْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }[1]. في تقلّب الدهر عِبر، وفي تغير الأحوال مدّكر.
إخوةَ الإيمان، شهرُ رمضان أوشك تمامُه، وقرُب [إرسال كتابه]، تقوَّضت خيامه، وتصرَّمت لياليه وأيامُه، قرُب رحيله، وأذن تحويلُه، ولم يبق منه إلا قليله، انتصف مودِّعا، وسار مسارعا، ولله الحمد على ما قضى وأبرَم، وله الشّكر على ما أعطى وأنعم. تنطوي صحيفة رمضان وتقوَّض سوقُه العامرة بالخيرات والحسنات، وقد ربح فيه من ربح وخسر من خسر.
تصرَّم الشهر وا لهفاه وانهدمـا واختصَّ بالفوز بالجناتِ من خدما
طوبى لمن كانت التقوى بضاعتَه في شـهره وبحبـل الله معتصمَـا
فاستدركوا - رحمكم الله - بقيتَه بالمسارعة إلى الخيرات، واغتنامِ الفضائل والقربات.
عبادَ الله، شهرُكم عزم على النقلة، ونوى الرِّحلة، وهو ذاهبٌ بأفعالكم، شاهداً لكم أو عليكم بما أودعتموه، فيا ترى أتُراه يرحل حامداً الصنيع أو ذاماً التضييع؟!! فمن كان أحسنَ فعليه بالتمام، ومن كان فرّط فليختم بالحسنى فالعمل بالختام.
أيها المسلمون، تشريعاتُ الإسلام تتضمَّن أسراراً لا تتناهى ومقاصد عاليةً لا تبارى، وإنَّ من فقه مقاصدِ الصوم كونَه وسيلةً عظمى لبناء صفة التقوى في وجدان المسلم بأوسع معانيها وأدقِّ صورها، { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }[2].
فهل يا ترى نأخذُ من رمضان مدرسةً نستلهم منها شدَّة العزم وقوَّة الإرادة على كل خير؟! تنظيماً للسلوك، وتقويماً للنفوس، وتعديلاً للغرائز، وتهذيباً للظواهر والبواطن، وصفاءً ونقاءً للأعمال والضمائر، تمسّكاً بالخيرات والفضائل، وتحلِّياً بالمحاسن والمكارم. حينئذ يخرج المسلم من صومه بصفحة مشرِقة بيضاء، ناصعةٍ في حياته، مفعمَة بفضائل الأعمال ومحاسن الأفعال ومكارم الخصال. غدا الصوم لنفسه حمىً أميناً وحصناً حصيناً من الذنوب والآثام، فصفت روحه، ورقَّ قلبه، وصلحت نفسه، وتهذَّبت أخلاقه.
إخوة الإسلام، في استقبال رمضانَ وتوديعه فرصٌ للتأمل ووقفات للنظر، فعسى الأمة الإسلامية أن تدرك وضعَها، وتسعى في الإصلاح، وتقوِّي ما ضعف، وتعالج ما اختلَّ. فالصوم ورمضان فترات رائعة، لو صادفت اعتباراً، ولاقت استغلالاً، مع صدقٍ في النوايا والمقاصد، وصوابٍ في الاتجاه والمناهج.
أيها المسلمون، ما أحوجَ الأمةَ في أيام محنها وشدائدها وأزمان ضعفها وذلّها إلى وقفات عندما تمرّ بها مناسبةٌ كرمضان، لتستلهم العبرَ والعظات، لتجدِّد العزم على المجاهدة الحقة للشيطان، وتحقِّق المسيرةَ الصحيحة للسير على الصراط المستقيم، ليعمّ بها التوجه على محاربة كلّ بغي وفساد بشتى صوره واختلاف أشكاله.
إخوة الإسلام، رمضانُ مدرسة للأمة الإسلامية، يجب ألا تخرج منها إلا بإصلاح للأوضاع، ومراجعةٍ لمواطن الخلل في جميع أمورها دينياً ودنيوياً. فجديرٌ بالأمة حكاماً ومحكومين وهم تحيط بهم الفتنُ وتتكاثر عليهم المحن، جديرٌ بهم وأمَّتهم تعاني من جراحات كبرى وتعيش مصائبَ عظمى أن يجعلوا من هذا الشهرِ الكريم نقطةَ تحول من حياة الفرقة والاختلاف إلى الاجتماع والائتلاف، جديرٌ بهم وهم أتباع محمد ، جديرٌ بهم أن يتَّخذوا من هذا الشهر مرحلةً تغيّر، مرحلةً جادّة إلى موافقة المنهج الحق في جميع شؤونهم على ضوء كتاب ربهم وسنة نبيِّهم .
عبادَ الله، حريٌّ بالأمّة أن لا يمرَّ بها هذا الشهر دون استلهامٍ لحكمه، والإفادة من معطياته، والنهلِ من ثمراته وخيراته، والاستفادةِ من فضائله النيرة وآثاره الخيِّرة؛ ليتمثل الإسلام الحقُّ في حياتها واقعاً ملموساً، وعملاً مشاهداً محسوساً، وما ذلك على الله بعزيز.
أمةَ الإسلام، رمضانُ يذكِّرنا شدةَ جود المصطفى بكل أنواع الخيرات، وبشتَّى أوجه القربات، وأسمى الصفات الزاكيات. كان رسول الله أجودَ الناس، وكان أجودَ ما يكون في رمضان، فهل يا تُرى ننطلق في حياتنا من منطلقِ صدقٍ من سيرته في جميع لحظاتنا وشؤوننا؟! فسيرتُه عليه الصلاة والسلام هي الشمس الساطعة والمِشعل الوضَّاء والنور المتألق الذي يبدِّد ظلماتِ الانحرافاتِ كلِّها والاضطرابات جميعها. فحاجة الأمة إلى معرفة السيرة العطرة أشدُّ ما تكون في هذا العصر الذي تقاذفت فيه الأمةَ أمواجُ المحن، وتشابكت فيه حلقات الفتن، وغلبت فيه الأهواء، واستحكمت المزاعم والآراء، وواجهت الأمة فيه ألواناً من التصدي السافر والتحدي الماكر والتآمر الرهيب، فحينئذ لا بد أن يعيش حبُّ الرسول في قلوبنا، وأن نتَّبعه ببصائرنا وأعمالنا وتوجُّهاتنا في كل لحظة من لحظاتنا.
أيها المسلمون، أمةَ محمد ، ألا فلنأخذْ من سيرته عليه الصلاة والسلام ما يزيد إيمانَنا، ويزكِّي سيرتَنا، ويُعلي أخلاقَنا، ويقوّم مسيرتَنا، ويصلح أوضاعَنا، أخذاً حقيقيًّا لا صوريًّا شكليًّا، فالله جل وعلا يقول: { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيراً }[3].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الآيات والبيان، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.