رابعًا: عند الوصول إلى البيت الحرام:
البيت الحرام أيها الأحبة الكرام هو بيت العز والشرف، بيت المجد والكرم، بيت الرجاء والأمل، واحة الضال، وهداية التائه، وملجأ القاصد، وملاذ الخائف، ومقام الطائف والعاكف، من دخله كان آمنًا، في جنباته الطهر والنقاء، وعلى أبوابه البذل والعطاء، وبين أركانه الجود والسخاء، فالأجر فيه مضاعف، والجزاء موفور، والذنب مغفور، والسعي مشكور، عند ربٍّ لا تُغلق رحابُه، ولا تُسدُّ أبوابُه، لا يُخيب سائلاً، ولا يرد طالبًا، فهو الحليم الذي لا يعجل، والكريم الذي لا يبخل، وفي ميدان هذا البيت يتجلَّى الإسلام في أروع صورة، وأبدع مظهر، جموع تطوف وتطوف، وفئات تصعد وتنحدر بين الصفا والمروة، وأنفاس تتلاحق بالذكر والدعاء، وأيادٍ مرفوعة ممدودة بالسؤال والرجاء، وعيون دامعة، وقلوب خاشعة، وألسن ضارعة بالذكر والقرآن، فكن أيها الحاج الكريم عند البيت على صورةٍ من هذه الصور، وفي حالٍ من تلك الأحوال، ولا تضيع هذه الفرصة وأنت في حالة القرب وفي موطن القبول، ولا تنشغل بالصور والأشكال عن الحقائق، ولا تُحدثْ في هذا البيت محرمًا، ولا تؤذِ أحدًا، ولا يفتر قلبك ولسانك عن الذكر والدعاء والابتهال.
وليتذكر كل حاج عندما يصل إلى البيت الحرام أنه قد انتهى إلى حرم الله تعالى آمنًا، وليَرْجُ عنده أن يأمن بدخوله من عقاب الله عزَّ وجلَّ، ولْيَخْشَ أن لا يكون أهلاً للقرب، فيكون بدخوله الحرم خائبًا ومستحقًّا للمَقْت، وليكن رجاؤه في جميع الأوقات غالبًا، فالكرم عميم، والرب رحيم، وشرف البيت عظيم، وحق الزائر مَرْعِيٌّ، وذمام المستجير اللائذ غير مُضَيَّع،
ثم اذكروا إخواني وأخواتي حجاج بيت الله الحرام وأنتم تدخلون المسجد المقدَّس شقيقَه المأسورَ المسجدَ الأقصى المباركَ، الذي ربط الله بينه وبين المسجد الحرام برباطٍ وثيق، حين أسرى بعبده محمد صلى الله عليه وسلم ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عُرج منه به صلى الله عليه وسلم إلى السماوات العلا، حتى كان من ربه قاب قوسين أو أدنى، وأوحى الله إليه هنالك ما أوحى، اذكروا هذا المسجد الأقصى المبارك في دعائكم، واجتهدوا في الدعاء أن يفك الله أسره، وأن يحفظه من كيد اليهود المجرمين، وأن ينصر أهله والمدافعين عنه، وأن يلحقه بأخويه المسجد الحرام والمسجد النبوي في الأمن والأمان والسلامة والإسلام.
كتب الله لنا ولكم والقبول، وهيأنا وإياكم لكل خير، إنه على كل شيء قدير.
خامسًا: الطواف:
حين تصل إلى البيت الحرام أيها الحاج الكريم فإنك تبدأ بالطواف، سواء كنتَ حاجًّا فتطوف طواف القدوم، وهو سنة، أو معتمرًا فتطوف طواف العمرة، وهو ركن، أما الطواف الذي هو ركن الحج، وهو طواف الإفاضة، فيكون بعد العودة من عرفات، ومن خلال الطواف نتعلم النظام، ونتدرب على التعاون، وإنكار الذات، ونتلقَّى دروسًا عملية في الآداب، والمروءة، والحب، والعطف، والحنان، ونؤمن بأن التوجيه الديني أسمى من أي توجيه، فأي توجيه تكون له مثل هذه الفعالية؟ إن الجيوش تحتاج إلى ربط وإحكام، وضبط ودقة، بعد تدريب متواصل، وإشراف حازم، إلا أننا نرى الحجيج- على كثرتهم واختلاف أجناسهم وتباين لغاتهم- يسيرون في اتجاه واحد، وارتباط وتآزر، ووحدة وتكاتف، ووسط التلبية الهادرة، والأصوات العالية، إذا أذن المؤذن سمعوا الأذان، ولبوا النداء، فإذا بالجميع وقوف كأنَّ على رءوسهم الطير، لا تسمع حينئذ إلا همسًا، ولا ترى إلا أجسامًا منظومة، وأقدامًا مصفوفة، إذا ركع إمامهم ركعوا، وإذا سجد سجدوا، وإذا قرأ أنصتوا، وإذا دعا أمَّنوا.
إنها صورةٌ من صور الجمال، والحسن والجلال، ومشهد من مشاهد الكمال، فلْتَأْتِ الدنيا كلُّها لتُطِلَّ على هذا المنظر البديع المتناسق، وليشهد الوجودُ كله بأن الإسلام هو دين النظام، ودين التضامن، ودين الألفة، ودين الحياة.
ثم اعلم أيها الطائف الكريم أن الطواف صلاةٌ غير أنه أُبيح فيه الكلام، ولذلك يلزمك الطهارةُ للطواف من الحدثين الأكبر والأصغر، كما يلزمك طهارةُ الثوب وسترُ العورة، ولا يحل طوافُ غير المتطهر، وما دام الطواف صلاةً فأحضرْ في قلبك فيه من التعظيم والخوف والرجاء والمحبة ما يليق به، ولا تنشغل بالكلام الفارغ، بل اعلم أنك بالطواف متشبه بالملائكة المقربين الحافين حول العرش الطائفين حوله، فاجتهد أن تشغل قلبك ولسانك بالذكر والدعاء والاستغفار والقرآن والتضرع، وكن ملائكيًّا، ولا تنشغل بغير الله تعالى،
وإياك وإيذاءَ الطائفين بلسانك أو بجوارحك، وإياكَ والتضجرَ من الزحام أو من الطائفين والعاكفين.
ولا تظنن أن المقصود طواف جسمك بالبيت فحسب، بل المقصود طواف قلبك بذكر رب البيت، حتى لا تبتدئ الذكر إلا منه، ولا تختم إلا به، كما تبتدئ الطواف من البيت وتختم بالبيت.
سادسًا: السعي بين الصفا والمروة:
السعي بين الصفا والمروة أحد أركان الحج أو العمرة، وهو لا يكون إلا بعد طواف صحيح، ومن خلال السعي بين الصفا والمروة يستشعر الحجاج معنى التضحية والجهد، هذا الجهد الذي قاسته السيدة هاجر من أجل شربة ماء تروي غلة طفل رضيع، أنهكه الجوع، وأرهقه الظمأ، امرأة وحيدة وسط الجبال الشاهقة وبطون الوديان السحيقة تهرول هنا وهناك، في صعود وانحدار، وحيرة واضطراب، يمزِّق أحشاءَها أنينُ ولد عليل، جفَّ ريقه، وجمُد لسانه اللاهث من شدة العطش، فإذا ما اشتد الخطْب، وادلهمَّ الأمر، تجلَّت رحمة الله كالنور في الظلمة، كالأمل الباسم وسط اليأس الحالك، فتفجر الماء سلسالاً، وانساب عذبًا دفاقًا، إنه بئر زمزم الميمونة المباركة، النبع الطاهر، والرحيق الحلو، والدواء الشافي؛ ليعرف الناس أن الله تعالى لا ينسى أولياءه، وأن الفرج بعد الضيق، وأن مع العسر يسرًا: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)﴾ (الطلاق)، ولتتذكر أيها الساعي الكريم عند ترددك بين الصفا والمروة ترددَك بين كفتي الميزان في عرصات القيامة، ناظرًا إلى الرجحان والنقصان، مترددًا بين العذاب والغفران، فأكثر في السعي من الدعاء والرجاء، وإياك أن يُشَبِّه الشيطان عليك، ويُلْبِس عليك عبادتك، ويقول لك: إن هاجر إنما صعدت وانحدرت، وراحت وجاءت، وسعت وهرولت، بحثًا عن ماءٍ أو بشر، أما أنا فما قيمة عملي وما فائدة سعيي؟ فاعلم أنه ليس من شرط العبودية أن تفهم المقصود بجميع ما يأمرك به مولاك، ولا أن تطلع على فائدة تكليفه، وإنما يتعين عليك الامتثال ويلزمك الانقياد، من غير طلب فائدة ولا سؤال عن مقصود، وليكن على قلبك دائمَا هذه العبارة الصديقية: "سَلِّمْ لما لا تعلم".
نسأل الله أن يكتب لنا القبول والرضوان، إنه على كل شيء قدير.
سابعًا: الوقوف بعرفات:
وفي الموكب الإلهي، وفي الركب الروحاني، وفي مسيرة الإيمان، تتوجهون إخواني وأخواتي الحجاج بين الزحام المتكاثف، وسط الجموع المؤمنة الصاخبة، وخلال الكتل الموحدة الزاحفة، قاصدين عرفات، متجردين من الملابس، إلا من إزار ورداء أبيضين يتساوى فيهما الغني ذو المال الوافر والجاه العريض بالفقير والمسكين؛ لنتذكر جميعًا ذلك الكفن الذي يلُفّنا عند وداعنا الأخير لهذه الحياة، إن هذا الزحام المائج يذكرنا كذلك بيوم الحشر وما فيه، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
في عرفات الذي هو ركن الحج الأكبر تذوب الطبقية، وتتلاشى التفرقة، وتتجسَّد المساواة الحقة، المساواة الصادقة، المساواة الخالية من كل تكلفٍ أو خداع، المساواة التي فُقدت في العالم المتحضر، وضاعت في دنيا المدنية الزائفة.
عند الصعود إلى عرفات يتسابق الحجاج ويتنافسون، يتسابقون إلى ربهم، ويتنافسون في كسب رضاه، في عرفات ينسى المؤمن الدنيا وما فيها من متاع، ويهجر الحياة بما تحويه من ترف وملذات، لا يهمه لفح الهجير، أو وهج الشمس، ولا يمنعه شدة البرد، أو هطول المطر؛ لأنه خرج من نطاق البشرية إلى رحاب الروحانية؛ لأنه انسلخ من المادية إلى عالم المعنويات؛ لأنه تجرَّد من تربته الأرضية؛ ليصعد إلى الملأ الأعلى من الملائكة، وينتظم في صفوف الأبرار.
في عرفات لا يقع البصر في مكان، إلا ويرى عابدًا يتبتل، أو مذنبًا يتوجع، أو مؤمنًا يخشع، أو مصليًا يركع، أو عاصيًا ذا عين تدمع، فكأنه بحيرة قدسية تغسل الآثام، وتمسح الخطايا، وتمحو السيئات.
ولِمَ لا أيها الإخوة والأخوات؟! والله تعالى يتجلَّى لأهل الموقف بالرحمة والغفران، ويباهي بهم ملائكة الأرض والسماء، ويشهدهم أنه قد غفر لهؤلاء الذين أتوا من كل فجٍّ ضاحين غبرًا شعثًا! لمَ لا، وهذا اليوم أفضل الأيام على الإطلاق! لمَ لا وإبليس ما رؤي في يومٍ أغيظ ولا أحقر ولا أدحر منه في هذا اليوم، إذْ يرى ما ينزل الله على عباده من رحمات!.
لك الله يا عرفات! يومك يوم نور، ويوم رحمة، يوم بركة، ويوم عطاء، يوم تبتسم فيه الآفاق، وتشرق الأكوان، ويعم الغفران، فيندحر الشيطان.
إذا تذكرت ذلك أخي الحاج الكريم فألزِمْ قلبك الضراعة والابتهال إلى الله عزَّ وجلَّ، لتحشرَ في زمرة الفائزين المرحومين، وحقِّق رجاءك بحسن الظن بالله؛ فالموقف موقف إجابة؛ ولذلك قيل: "إن من أعظم الذنوب أن يحضر العبد عرفات ويظن أن الله تعالى لم يغفر له"، وكأن اجتماع الهمم والاستظهار بمجاورة المجتمعين من أقطار البلاد هو سر الحج، وغاية مقصودة، فلا طريقَ إلى استدرار رحمة الله سبحانه، مثل اجتماع الهمم وتعاون القلوب في وقتٍ واحد.
أما دعاء يوم عرفة فأفضله أن تقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، فأكثروا أيها الحجاج الكرام من هذا الذكر في هذا اليوم المبارك، كأني بكم أيها الإخوة الحجاج تسألون عرفات عن هذه الأمجاد التي اعتلت ذروته، وتلك الكتائب الأولى التي عاشت على سطحه فترة من الزمن، وكأني بالجبل الرحيب يقول: كانوا أبطالاً أفذاذًا وجنودًا بواسل، كانوا أنقياءً أطهارًا، صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُود وَرِضْوَانًا﴾ (الفتح: من الآية 29)، فـ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (المائدة: من الآية 119).
كأني بالجبل الأشم يُذكِّرنا أيها الأحبة بالقائد الأعظم، بالزعيم الأكبر، بالمرشد الملهم، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وهو يلقي أسمى خطاب في الوجود، وأخلد حديثٍ على صفحات الزمان، وأظهر دستور عرفه التاريخ في حجة الوداع، يرسم للبشرية طريق خلاصها، وسبيل مجدها، ودروب سعادتها، ويسكب في أذن الدنيا أصدق قانون، فيه صلاح المجتمع، وكرامة الإنسان، ويتلو عليهم قول الله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا﴾ (المائدة: من الآية 3).
أيها الحجاج الكرام، في هذا اليوم الذي يتجلى الله عليكم فيه ويباهي بكم الملائكة لا تنسوا من خالص الدعاء إخوانكم المضطهدين في فلسطين والعراق والشيشان وغيرها من بلاد الإسلام، اذكروا أخواتكم وأمهاتكم الثكالى والأرامل وأبناءكم وبناتكم اليتامى، وإخوانكم وأخواتكم المجاهدين والمجاهدات، وألحوا على الله في الدعاء أن يأخذ لهم بثأرهم ممن ظلمهم، وأن ينصرهم على عدوهم، وأن يربط على قلوبهم ويعوضهم خيرًا مما فقدوا.
اذكروا آباءكم وأمهاتكم وإخوانكم وأخواتكم وأبناءكم وبناتكم في العراق الشقيق الذين يتعرضون للاحتلال الظالم من الصليبيين، والذين سبق أن ذاقوا الويلات من نظامٍ متسلط وعجزٍ عربي فاضح وعدوانٍ غربي متغطرس، اذكروهم فادعوا الله أن يكشف عنهم الغمة، وأن يفرج كربهم، ويبدل عسرهم يسرًا، وأن يكشف عن الأمة ما أصابها وما ألـمَّ بها، وأن يرفع لواء الإسلام والمسلمين في كل مكان.
أيها الحجاج الكرام، فإذا أفضتم من عرفات فأكثروا من ذكر الله، وإياكم والتدافع، وعليكم بالسكينة والوقار، فبذلك أمر الله عز وجل وأوصى نبيكم صلى الله عليه وسلم.
فإذا وصلتم إلى مزدلفة فاعلموا أنكم قد دخلتم في حدود الحرم، فادخلوها بالوقار، ولا تكفوا عن التلبية والدعاء، وأكثروا من ذكر الله عند المشعر الحرام في مزدلفة، استجابةً لأمر الله عز وجل حيث يقول: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)﴾ (البقرة).
نسأل الله أن يجعلنا في يوم عرفة من المغفورين، وأن يكتب لأمتنا النصر والفلاح والتمكين، إنه على كل شيء قدير.
ثامنًا: رمي الجمار:
اعلم أيها الحاج الكريم أن رمي الجمار واجب من واجبات الحج، وأن المقصود منه الانقياد للأمر؛ إظهارًا للرق والعبودية، وانتهاضًا لمجرد الامتثال من غير حظ للعقل والنفس فيه، ثم التشبه بإبراهيم عليه السلام؛ حيث عرض له إبليس لعنه الله تعالى في ذلك الموضع، فأمره الله عز وجل أن يرميه بالحجارة طردًا له وقطعًا لأمله.
فإن خطرَ لك أن الشيطان عَرَض له وشاهده فلذلك رماه، وأما أنا فليس يعرض لي الشيطان؟ فاعلم أن هذا الخاطر من الشيطان، وأنه الذي ألقاه في قلبك ليفتر عزمك في الرمي، ويخيل إليك أنه فعل لا فائدةَ فيه، وأنه يضاهي اللعب فلم تشتغل به؟ فاطرده عن نفسك بالجد والتشمير في الرمي فيه برغم أنف الشيطان، واعلم أنك في الظاهر ترمي الحصى إلى العقبة وفي الحقيقة ترمي به وجه الشيطان، وتقصم به ظهره؛ إذ لا يحصل إرغام أنفه إلا بامتثالك أمر الله سبحانه وتعالى؛ تعظيمًا له بمجرد الأمر من غير حظ للنفس والعقل فيه.
ثم اعلموا أيها الحجاج الكرام أن الحج عنوان الحب والتآلف، ورمز الأخوة والترابط، وأن الواجب على المسلم الرفق بإخوانه، ومراعاة ظروف الناس عند أداء المناسك، وعدم التزاحم بصورة تخرج الحج عن حقيقته التي أمر الله بها، وعدم تقديم السنن والمندوبات على الفروض والواجبات، وإذا كان الشرع الحنيف قد جاء بالتيسير ورفع الحرج، كما قال الله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ (البقرة)، وقال تعالى: ﴿مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ (الحج: من الآية 78)، وقال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ﴾ (النساء: من الآية 28)، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يسروا ولا تعسروا" (1)؛ إذا كان الأمر كذلك فلا ينبغي أن يضيق الحاج على نفسه أو على إخوانه بالإلزام بوقتٍ معين في الرمي، فيتزاحم الناس في أوقات الفضيلة ويَدَعوا سائر الأوقات التي رخص أكثر العلماء في الرمي فيها، كما ينبغي أن يراعي الحجاج من الشباب آباءهم وأمهاتهم من كبار السن، وإخوانهم وأخواتهم من ذوي الأعذار والضعف الذين يرغبون في أداء النسك، حتى يكون العمل مقبولاً إن شاء الله.
نسأل الله أن يرزقنا حسن الانقياد له، وأن يجعلنا ممن اتبع ملة إبراهيم حنيفًا.