حياة النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم بين العفوية والمثالية
الكاتب الشيخ: سعد الغامدي
لا أدري من أين وفد إلى جماهير من المسلمين المثالية في التدين ، حتى صار التكلف واصطناع الهيبة جزء منه ، فلم يعد ينعم بعض المتدينين بالحياة العفوية والطبيعية في حياتهم كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعيش حياته بصورة تلقائية وعفوية ، فالبعض منهم لا يفكر في نفسه ورغبتها واحتياجاتها بقدر ما يهتم ما يقول عنه الآخرون ، والبعض يرزح تحت وطأة العادات الخاطئة حتى وإن خالفت النصوص الشرعية ، فهو في حياته ميكانيكي الحركة .. نمطي التفكير .. وضع نفسه في قوالب شكلية فرضتها عليه نظرات الآخرين وتقديراتهم العقلية المبنية على التحسين والتقبيح ليس إلا ...
هل التدين الذي تعلمناه من النبي صلى الله عليه وسلم في سيرته وحياته هو هذا القالب الجامد من أذواق الجماهير في الشكل والمظهر ؟ أم هو تديُّن اهتم بالقلب والقالب معاً ؟ هل منتهى هذا التدين أن يصل إلى حد المثالية المفرطة في تصوير المفاهيم المغلوطة عن الكون والإنسان والحياة حتى استقرَّ به المقام في مجرد العبادات الظاهرة والثوب والمظهر العام ، دون الاهتمام بكل مناحي الحياة الثقافية والفكرية والاقتصادية وغيرها ...
بعض المتدينين حرَّم على نفسه الملبس المباح والطعام المباح والنزهة البريئة والحديث الضاحك الباسم ، لأنه ظن أن من أبرز سمات التدين هو طول الصمت والحرمان من المباح والسعي لإرضاء جماهير معينة من الناس خوفاً من مخالفتهم ، بل بلغ بالبعض أن يتصنع الهيبة فلم يعد يتكلم بعفوية أو يضحك بعفوية أو يمشي مشيته الطبيعية لأن الهيبة عنده صارت من أساسات التدين حتى وإن خالفت باطنه الخرب !...
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبسط الناس ملبساً ومسكناً ومطعماً ومشرباً وأنساً وحديثاً في مخالطته لأصحابه وأزواجه ، ولم يكن يعرف هذه المثالية الغارقة في التكلف المذموم الذي قال الله تعالى عنه " قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين " .. فلم يعرف أن له لباساً خاصاً أو جلسة خاصة أو صنع لنفسه هالة أو هيبة إنما هي هيبة الرسالة والنبوة ...
إذا دخل الضيف الجديد مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يُعرف بلبس أو هيبة أو جلسة إنما هو واحدٌ منهم ...
إذا جلس ليأكل جلس جلسة العبد !!
يبكي إذا مرض أحدٌ أو مات أو قتل في سبيل الله !!
ينام على الحصير حتى يؤثر في جنبيه !! ولا يشترط على قوم حين يزورهم أن ينام في أفخم الفنادق والأجنحة الملكية أو يشترط مركباً خاصاً أو طائرة خاصة كما يفعل البعض اليوم حين يطلب منه درساً أو محاضرةً ، وهم قلة نادرة بحمد الله ..
يخرج أحياناً من بيته وليس على رأسه عمامة !! ولا ضير أن يراه أصحابه كذلك لأنه بشر ..
يركب على الدابة ويردف غيره خلفه !! ولا يعنيه ما يقوله الناس ركب حماراً أو بغلاً أو غير ذلك !! هي دابة والسلام ..
يبني مع أصحابه المسجد ويحمل التراب على ظهره وكتفه ولا يصنع لنفسه مكانة خاصة ولا يطلبها !!
يخصف النعل ويرقع الثــوب ويكون في مهنة أهلـه ، ولا يرى أنه شيـخ مهـاب وهو مع أهلـه وبين أبنائـــه !!
يقرأ القرآن في بيته قائماً وقاعداً ومضطجعاً ، بل ويضع رأسه أحياناً على فخذ عائشة رضي الله عنها وهو يقرأ أعظم كتاب !!
يصلي إماماً بالناس ، فإن جاءته العبرة والدمعة بكى وتأثر ، وإن لم تأته العبرة فإنه لا يتصنع البكاء ولا تهييج الناس على البكاء ، بحجة التأثير فيهم !!
يستدين المال إن احتاج إليه كما يستدين الناس بعضهم من بعض ولا يتعالى ويترفع عن طلب حاجته حتى وإن استدان من جاره اليهودي !!
بل بلغ من طبيعته وعفويته النادرة أن يخاصمه زوجاته فتجلس إحداهن الأيام لا تكلمه ، وربما هو غضب عليهن فقاطعهن شهراً لا يكلمهن ، لعلمه عن نفسه أنه بشر يعتريه ما يعتري الناس من الخلاف الأسري والزوجي ، فأين المتكلفون عن مثل هذا وغيره كثير ، ولكن ليس هذا المقام مقام بسط ولكن مقام إشارة ..
ذلك هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلك هي حياته العفوية ، بلا تكلف ولا تصنع ، حاشاه بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام ، وما ذلك إلا ليلقن بعض المتدينين المتكلفين المثالية الواقعية لا الواقعية المثالية ، التي ترفع النفس عن حطام الأرض وتسمو به في سماء القيم ، وتربيهم على أن الإسلام مثاليُّ القدر والمكانة ، لكنه واقعي التطبيق في حدود الإنسان وطاقته ، فلا يسعى لمصادمة طبيعة الخلق حتى لا يتصادم مع منهج السماء.